سورة التوبة - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


الاستفهام في: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} للإنكار من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث وقع منه الإذن لما استأذنه في القعود قبل أن يتبين من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه، ومن هو كاذب فيه. وفي ذكر العفو عنه صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى، وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه. وقيل: إن هذا عتاب له صلى الله عليه وسلم في إذنه للمنافقين بالخروج معه، لا في إذنه لهم بالقعود عن الخروج. والأوّل: أولى، وقد رخص له سبحانه في سورة النور بقوله: {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] ويمكن أن يجمع بين الآيتين بأن العتاب هنا متوجه إلى الإذن قبل الاستثبات حتى يتبين الصادق من الكاذب، والإذن هنالك متوجه إلى الإذن بعد الإستثبات، والله أعلم. وقيل: إن قوله: {عَفَا الله عَنكَ} هي افتتاح كلام كما تقول: أصلحك الله، وأعزّك ورحمك، كيف فعلت كذا، وكذا حكاه مكي والنحاس، والمهدوي، وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على عفا الله عنك، وعلى التأويل الأوّل: لا يحسن. ولا يخفاك أن التفسير الأوّل هو المطابق لما يقتضيه اللفظ على حسب اللغة العربية، ولا وجه لإخراجه عن معناه العربي. وفي الآية دليل على جواز الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، والمسألة مدوّنة في الأصول، وفيها أيضاً دلالة على مشروعية الاحتراز عن العجلة، والاغترار بظواهر الأمور، و{حتى} في {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ} للغاية، كأنه قيل: لم سارعت إلى الإذن لهم؛ وهلا تأنيث حتى يتبين لك صدق من هو صادق منهم في العذر الذي أبداه، وكذب من هو كاذب منهم في ذلك؟
ثم ذكر سبحانه أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود عن الجهاد، بل كان من عادتهم أنه صلى الله عليه وسلم إذا أذن لواحد منهم بالقعود شق عليه ذلك. فقال: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر أَن يجاهدوا} وهذا على أن معنى لآية أن لا يجاهدوا على حذف حرف النفي؛ وقيل المعنى: لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد؛ وقيل: إن معنى الاستئذان في الشيء الكراهة له، وأما على ما يقتضيه ظاهر اللفظ فالمعنى: لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد، بل دأبهم أن يبادروا إليه من غير توقف ولا ارتقاب منهم، لوقوع الإذن منك فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف. قال الزجاج: {أن يجاهدوا} في موضع نصب بإضمار في: أي في أن يجاهدوا: {والله عَلِيمٌ بالمتقين} وهم هؤلاء الذين لم يستأذنوا {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} في القعود عن الجهاد، والتخلف عنه: {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} وهم: المنافقون، وذكر الإيمان بالله أوّلا، ثم باليوم الآخر ثانياً في الموضعين، لأنهما الباعثان على الجهاد في سبيل الله.
قوله: {وارتابت قُلُوبُهُمْ} عطف على قوله: {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} وجاء بالماضي للدلالة على تحقق الريب في قلوبهم، وهو: الشك. قوله: {فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي: في شكهم الذي حلّ بقلوبهم يتحيرون، والتردّد: التحير. والمعنى: فهؤلاء الذين يستأذنونك ليسوا بمؤمنين، بل مرتابين حائرين لا يهتدون إلى طريق الصواب، ولا يعرفون الحق.
قوله: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لاعَدُّواْ لَهُمْ عِدَّةَ} أي: لو كانوا صادقين فيما يدّعونه ويخبرونك به من أنهم يريدون الجهاد معك، ولكن لم يكن معهم من العدّة للجهاد ما يحتاج إليه، لما تركوا إعداد العدّة وتحصيلها قبل وقت الجهاد، كما يستعدّ لذلك المؤمنون، فمعنى هذا الكلام: أنهم لم يريدوا الخروج أصلاً ولا استعدّوا للغزو. والعدّة ما يحتاج إليه المجاهد من الزاد والراحلة والسلاح. قوله: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} أي: ولكن كره الله خروجهم، فتثبطوا عن الخروج، فيكون المعنى: ما خرجوا ولكن تثبطوا، لأن كراهة الله انبعاثهم تستلزم تثبطهم عن الخروج، والانبعاث: الخروج، أي حبسهم الله عن الخروج معك وخذلهم، لأنهم قالوا: إن لم يؤذن لنا في الجلوس، أفسدنا وحرّضنا على المؤمنين. وقيل: المعنى: لو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة، ولكن ما أرادوه لكراهة الله له قوله: {وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} قيل: القائل لهم هو الشيطان بما يلقيه إليهم من الوسوسة، وقيل: قاله بعضهم لبعض. وقيل: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً عليهم. وقيل: هو عبارة عن الخذلان، أي أوقع الله في قلوبهم القعود خذلاناً لهم. ومعنى: {مَعَ القاعدين} أي: مع أولي الضرر من العميان، والمرضى، والنساء، والصبيان، وفيه من الذمّ لهم والإزراء عليهم والتنقص بهم ما لا يخفى.
قوله: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عن تخلف المنافقين، والخبال: الفساد والنميمة، وإيقاع الاختلاف والأراجيف. قيل: هذا الاستثناء منقطع، أي ما زادوكم قوّة، ولكن طلبوا الخبال. وقيل المعنى: لا يزيدونكم فيما تردّدون فيه من الرأي إلا خبالاً فيكون متصلاً. وقيل: هو استثناء من أعمّ العام: أي ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً. فيكون الاستثناء من قسم المتصل؛ لأن الخبال من جملة ما يصدق عليه الشيء. قوله: {ولأَوْضَعُواْ خلالكم يَبْغُونَكُمُ الفتنة} الإيضاع: سرعة السير، ومنه قوله ورقة بن نوفل:
يا ليتني فيها جذع *** أخبّ فيها وأضع
يقال: أوضع البعير: إذا أسرع السير. وقيل: الإيضاع: سير الخبب، والخلل: الفرجة بين الشيئين، والجمع الخلال: أي الفرج التي تكون بين الصفوف.
والمعنى: لسعوا بينكم بالإفساد بما يختلقونه من الأكاذيب المشتملة على الإرجاف والنمائم الموجبة لفساد ذات البين. قوله: {يَبْغُونَكُمُ الفتنة} يقال: بغيته كذا: طلبته له، وأبغيته كذا: أعنته على طلبه. والمعنى: يطلبون لكم الفتنة في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفساد. وقيل: الفتنة هنا الشرك. وجملة: {وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ} في محل نصب على الحال، أي والحال أنّ فيكم من يستمع ما يقولونه من الكذب، فينقله إليكم فيتأثر من ذلك الاختلاف بينكم، والفساد لإخوانكم {والله عَلِيمٌ بالظالمين} وبما يحدث منهم لو خرجوا معكم، لذلك اقتضت حكمته البالغة أن لا يخرجوا معكم، وكره انبعاثهم معكم، ولا ينافي حالهم هذا لو خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقدّم من عتابه على الإذن لهم في التخلف؛ لأنه سارع إلى الإذن لهم، ولم يكن قد علم من أحوالهم لو خرجوا أنهم يفعلون هذه الأفاعيل، فعوتب صلى الله عليه وسلم على تسرّعه إلى الإذن لهم قبل أن يتبين له الصادق منهم في عذره من الكاذب، ولهذا قال الله سبحانه فيما يأتي في هذه السورة: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا} [التوبة: 83] الآية، وقال في سورة الفتح: {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ} إلى قوله: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} [الفتح: 15].
قوله: {لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ} أي: لقد طلبوا الإفساد والخبال وتفريق كلمة المؤمنين وتشتيت شملهم من قبل هذه الغزوة التي تخلفوا عنك فيها. كما وقع من عبد الله بن أبيّ وغيره {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون}. قوله: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} أي: صرّفوها من أمر إلى أمر، ودبروا لك الحيل والمكائد، ومنه قول العرب حوّل قلب إذا كان دائراً حول المكائد والحيل، يدير الرأي فيها ويتدبره. وقرئ: {وقلبوا} بالتخفيف {حتى جَاء الحق} أي: إلى غاية هي مجيء الحق، وهو النصر لك والتأييد {وَظَهَرَ أَمْرُ الله} بإعزاز دينه، وإعلاء شرعه، وقهر أعدائه. وقيل: الحق: القرآن {وَهُمْ كارهون} أي: والحال أنهم كارهون لمجيء الحق وظهور أمر الله، ولكن كان ذلك على رغم منهم {وَمِنْهُمُ} أي: من المنافقين {مَن يِقُولُ} لرسول الله صلى الله عليه وسلم {ائذن لّي} في التخلف عن الجهاد {وَلاَ تَفْتِنّى} أي: لا توقعني في الفتنة، أي الإثم، إذا لم تأذن لي فتخلفت بغير إذنك؛ وقيل: معناه: لا توقعني في الهلكة بالخروج {أَلا فِى الفتنة سَقَطُواْ} أي: في نفس الفتنة سقطوا، وهي: فتنة التخلف عن الجهاد، والاعتذار الباطل. والمعنى: أنهم ظنوا أنهم بالخروج أو بترك الإذن لهم يقعون في الفتنة، وهم بهذا التخلف سقطوا في الفتنة العظيمة.
وفي التعبير بالسقوط ما يشعر بأنهم وقعوا فيها وقوع من يهوى من أعلى إلى أسفل، وذلك أشدّ من مجرّد الدخول في الفتنة، ثم توعدهم على ذلك فقال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} أي: مشتملة عليهم من جميع الجوانب لا يجدون عنها مخلصاً، ولا يتمكنون من الخروج منها بحال من الأحوال.
وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف، وابن جرير عن عمرو بن ميمون، قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه من الأسارى، فأنزل الله: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عون بن عبد الله، قال: ما سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة. فقال: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {عَفَا الله عَنكَ} الآية قال: ناس قالوا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أذن لكم، فاقعدوا. وإن لم يأذن لكم، فاقعدوا.
وأخرج النحاس في ناسخه، عن ابن عباس في قوله: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} الثلاث الآيات، قال: نسخها: {فَإِذَا استذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62].
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه، عنه، في قوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله} الآية قال: هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر، وعذر الله المؤمنين فقال: {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62].
وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عنه، أيضاً في قوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ} الآيتين قال: نسختها الآية التي في سورة النور: {إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} إلى {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 62]. فجعل الله النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى النظرين في ذلك، من غزا غزا في فضيلة، ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء الله.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} قال: خروجهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {فَثَبَّطَهُمْ} قال: حبسهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} قال: هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {ولأَوْضَعُواْ خلالكم} قال: لأسرعوا بينكم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {ولأَوْضَعُوا خلالكم} قال: لأرفضوا {يَبْغُونَكُمُ الفتنة} يبطئونكم: عبد الله بن نبتل، وعبد الله بن أبيّ ابن سلول، ورفاعة بن تابوت، وأوس بن قيظي {وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ} محدّثون لهم بأحاديثكم غير منافقين، وهم عيون للمنافقين.
وأخرج ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، عن ابن عباس، قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك، قال لجدّ بن قيس: «يا جدّ بن قيس، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟» فقال: يا رسول الله، إني امرؤ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن، فأذن لي ولا تفتني، فأنزل الله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله، نحوه.
وأخرج ابن مردويه، عن عائشة، نحوه أيضاً.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَلاَ تَفْتِنّى} قال: لا تخرجني {أَلا فِى الفتنة سَقَطُواْ} يعني: في الخروج.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {وَلاَ تَفْتِنّى} قال: لا تؤثمني {أَلا فِى الفتنة} قال: ألا في الإثم، وقصة تبوك مذكورة في كتب الحديث والسير فلا نطول بذكرها.


قوله: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} أيّ: حسنة كانت بأيّ سبب اتفق، كما يفيده وقوعها في حيز الشرط، وكذلك القول في المصيبة، وتدخل الحسنة والمصيبة الكائنة في القتال كما يفيده السياق دخولاً أوّلياً، فمن جملة ما تصدق عليه الحسنة: الغنيمة والظفر. ومن جملة ما تصدق عليه المصيبة: الخيبة والانهزام، وهذا ذكر نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين وسوء أفعالهم، والإخبار بعظيم عدوانهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فإن المساءة بالحسنة، والفرح بالمصيبة من أعظم ما يدلّ على أنهم في العداوة قد بلغوا إلى الغاية، ومعنى {تَوَلَّوْاْ}: رجعوا إلى أهلهم عن مقامات الاجتماع، ومواطن التحدّث حال كونهم فرحين بالمصيبة التي أصابت المؤمنين، ومعنى قولهم: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} أي: احتطنا لأنفسنا، وأخذنا بالحزم، فلم نخرج إلى القتال كما خرج المؤمنون حتى نالهم ما نالهم من المصيبة.
ثم لما قالوا هذا القول أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عليهم بقوله: {لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} أي: في اللوح المحفوظ، أو في كتابه المنزّل علينا، وفائدة هذا الجواب أن الإنسان إذا علم أن ما قدّره الله كائن، وأن كل ما ناله من خير أو شرّ إنما هو بقدر الله وقضائه، هانت عليه المصائب، ولم يجد مرارة شماتة الأعداء وتشفي الحسدة {هُوَ مولانا} أي: ناصرنا وجاعل العاقبة لنا، ومظهر دينه على جميع الأديان، والتوكل على الله تفويض الأمور إليه؛ والمعنى: أن من حق المؤمنين أن يجعلوا توكلهم مختصاً بالله سبحانه، لا يتوكلون على غيره. وقرأ طلحة بن مصرف {يصيبنا} بتشديد الياء. وقرأ أعين قاضي الري {يصيبنا} بنون مشدّدة. وهو لحن لان الخبر لا يؤكد. وردّ بمثل قوله تعالى: {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15].
وقال الزجاج: معناه لا يصيبنا إلا ما اختصنا الله من النصرة عليكم أو الشهادة. وعلى هذا القول يكون قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الحسنيين} تكريراً لغرض التأكيد، والأوّل: أولى حتى يكون كل واحد من الجوابين اللذين أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عليهم بهما مفيداً لفائدة غير فائدة الآخر، والتأسيس خير من التأكيد. ومعنى: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الحسنيين}: هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخصلتين الحسنيين: إما النصرة أو الشهادة، وكلاهما مما يحسن لدينا، والحسنى: تأنيث الأحسن، ومعنى الاستفهام: التقريع والتوبيخ {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} إحدى المساءتين لكم: إما {أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ} أي: قارعة نازلة من السماء، فيسحتكم بعذابه، {أَوْ} بعذاب لكم {بِأَيْدِينَا} أي: بإظهار الله لنا عليكم بالقتل والأسر والنهب والسبي.
والفاء في {فتربصوا} فصيحة، والأمر للتهديد كما في قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] أي تربصوا بنا ما ذكرنا من عاقبتنا فنحن معكم متربصون ما هو عاقبتكم، فستنظرون عند ذلك ما يسرّنا ويسوؤكم. وقرأ البزي وابن فليح {هل تربصون} بإظهار اللام وتشديد التاء. وقرأ الكوفيون بإدغام اللام في التاء. وقرأ الباقون بإظهار اللام وتخفيف التاء. قوله: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} هذا الأمر معناه الشرط والجزاء، لأن الله سبحانه لا يأمرهم بما لا يتقبله منهم. والتقدير: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يتقبل منكم؛ وقيل: هو أمر في معنى الخبر: أي أنفقتم طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم، فهو كقوله: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] وفيه الإشعار بتساوي الأمرين في عدم القبول، وانتصاب طوعاً أو كرهاً على الحال، فهما مصدران في موقع المشتقين: أي أنفقوا طائعين من غير أمر من الله ورسوله، أو مكرهين بأمر منهما. وسمي الأمر منهما إكراهاً لأنهم منافقون لا يأتمرون بالأمر. فكانوا بأمرهم الذي لا يأتمرون به كالمكرهين على الإنفاق، أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو مكرهين منهم، وجملة {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين} تعليل لعدم قبول إنفاقهم، والفسق: التمرّد والعتوّ، وقد سبق بيانه لغة وشرعاً.
ثم بين سبحانه السبب المانع من قبول نفقاتهم فقال: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ} أي: كفرهم بالله وبرسوله جعل المانع من القبول ثلاثة أمور: الأوّل: الكفر، الثاني: أنهم لا يصلون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل؛ لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، فصلاتهم ليست إلا رياء للناس وتظهراً بالإسلام الذي يبطنون خلافه، والثالث: أنهم لا ينفقون أموالهم إلا وهم كارهون، ولا ينفقونها طوعاً لأنهم يعدّون إنفاقها وضعا لها في مضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله.
قوله: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم} الإعجاب بالشيء: أن يسرّ به سروراً راض به متعجب من حسنه، قيل: مع نوع من الافتخار، واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه. والمعنى: لا تستحسن ما معهم من الأموال والأولاد: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} بما يحصل معهم من الغمّ والحزن عند أن يغنمها المسلمون، ويأخذوها قسراً من أيديهم مع كونها زينة حياتهم وقرّة أعينهم، وكذا في الآخرة يعذبهم بعذاب النار بسبب عدم الشكر لربهم الذي أعطاهم ذلك، وترك ما يجب عليهم من الزكاة فيها، والتصدق بما يحق التصدق به. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة لأنهم منافقون، فهم ينفقون كارهين، فيعذبون بما ينفقون. قوله: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} الزهوق: الخروج بصعوبة، والمعنى: أن الله يريد أن تزهق أنفسهم وتخرج أرواحهم حال كفرهم لعدم قبولهم لما جاءت به الأنبياء وأرسلت به الرسل، وتصميمهم على الكفر وتماديهم في الضلالة.
ثم ذكر الله سبحانه نوعاً آخر من قبائح المنافقين، فقال: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} أي: من جملتكم في دين الإسلام، والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكتاب الله سبحانه: {وَمَا هُم مّنكُمْ} في ذلك إلا بمجرّد ظواهرهم دون بواطنهم {ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي: يخافون أن ينزل بهم ما نزل بالمشركين من القتل والسبي، فيظهرون لكم الإسلام تقية منهم لا عن حقيقة {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ} يلتجئون إليه ويحفظون نفوسهم فيه منكم من حصن أو غيره {أَوْ مغارات} جمع مغارة من غار يغير. قال الأخفش: ويجوز أن يكون من أغار يغير، والمغارات: الغيران والسراديب، وهي: المواضع التي يستتر فيها، ومنه غار الماء وغارت العين؛ والمعنى: لو وجدوا أمكنة يغيبون فيها أشخاصهم هرباً منكم {أَوْ مُدَّخَلاً} من الدخول: أي مكاناً يدخلون فيه من الأمكنة التي ليست مغارات. قال النحاس: الأصل فيه متدخل قلبت التاء دالاً، وقيل أصله: مدتخل. وقرأ أبيّ: {متدخلاً} وروى عنه أنه قرأ: {مندخلا} بالنون. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق، وابن محيصن {أو مدخلاً} بفتح الميم وإسكان الدال. قال الزجاج: ويقرأ: {أو مدخلاً} بضم الميم وإسكان الدال. وقرأ الباقون بتشديد الدال مع ضم الميم {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ} أي: لالتجئوا إليه وأدخلوا أنفسهم فيه والحال أنهم {يَجْمَحُون} أي يسرعون إسراعاً لا يردّهم شيء، من جمح الفرس: إذا لم يردّه اللجام، ومنه قول الشاعر:
سبوح جموح وإحضارها *** كمعمعة السعف الموقد
والمعنى: لو وجدوا شيئاً من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هرباً من المسلمين.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن جابر بن عبد الله، قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء يقولون: إن محمداً وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا، فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبيّ وأصحابه، فساءهم ذلك فأنزل الله: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} الآية.
وأخرج سنيد، وابن جرير، عن ابن عباس {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} يقول: إن يصبك في سفرك هذه الغزوة- تبوك- حسنة تسؤهم قال: الجد وأصحابه، يعني: الجد بن قيس.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} قال: إلا ما قضى الله لنا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الحسنيين} قال: فتح أو شهادة.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، في قوله: {أَوْ بِأَيْدِينَا} قال: القتل بالسيوف.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، قال: قال الجد بن قيس: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ولكن أعينك بمالي، قال: ففيه نزلت: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} الآية.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم} قال: هذه من تقاديم الكلام، يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، قال: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} قال: تزهق أنفسهم في الحياة الدنيا {وَهُمْ كافرون} قال: هذه آية فيها تقديم وتأخير.
وأخرج أبو حاتم، وأبو الشيخ عن الضحاك، في قوله: {فَلاَ تُعْجِبْكَ} يقول: لا يغرنك {وَتَزْهَقَ} قال: تخرج أنفسهم، قال في الدنيا وهم كافرون.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ} الآية قال: الملجأ: الحرز في الجبال، والمغارات: الغيران، والمدّخل: السرب.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} قال: يسرعون.


قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ} هذا ذكر نوع آخر قبائحهم، يقال: لمزه يلمزه: إذا عابه. قال الجوهري: اللمز: العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، وقد لمزه يلمزه ويلمزه، ورجل لماز، ولمزة: أي عياب. قال الزجاج: لمزت الرجل ألِمزه وأُلمزه، بكسر الميم وضمها: إذا عبته، وكذا همزته. ومعنى الآية: ومن المنافقين من يعيبك في الصدقات، أي في تفريقها وقسمتها.
وروى عن مجاهد أنه قال: معنى {يَلْمِزُكَ}: يرزؤك ويسألك، والقول عند أهل اللغة هو الأوّل، كما قال النحاس. وقرئ: {يلمزك} بضم الميم، و{يلمزك} بكسرها مع التشديد. وقرأ الجمهور بكسرها مخففة {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا} أي: من الصدقات بقدر ما يريدون {رَضُواْ} بما وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعيبوه، وذلك لأنه لا مقصد لهم إلا حطام الدنيا، وليسوا من الدين في شيء {وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا} أي: من الصدقات ما يريدونه ويطلبونه {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي: وإن لم يعطوا فاجئوا السخط، وفائدة إذا الفجائية: أن الشرط مفاجئ للجزاء وهاجم عليه.
وقد نابت إذا الفجائية مناب فاء الجزاء. {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ} أي: ما فرضه الله لهم وما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات، وجوب {لو} محذوف: أي لكان خيراً لهم، فإن فيما أعطاهم الخير العاجل والآجل {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} أي: قالوا هذه المقالة عند أن أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو لهم: أي كفانا الله، سيعطينا من فضله، ويعطينا رسوله بعد هذا ما نرجوه ونؤمله {إِنَّا إِلَى الله راغبون} في أن يعطينا من فضله ما نرجوه.
قوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء} لما لمز المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات بيّن الله لهم مصرفها دفعاً لطعنهم، وقطعاً لشغبهم، و{إِنَّمَا} من صيغ القصر، وتعريف الصدقات للجنس: أي جنس هذه الصدقات مقصور على هذه الأصناف المذكورة لا يتجاوزها، بل هي لهم لا لغيرهم.
وقد اختلف أهل العلم هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية، أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يراه الإمام أو صاحب الصدقة؟ فذهب إلى الأوّل الشافعي وجماعة من أهل العلم، وذهب إلى الثاني: مالك وأبو حنيفة، وبه قال عمر، وحذيفة، وابن عباس، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران. قال ابن جرير وهو قول عامة أهل العلم: احتج الأوّلون بما في الآية من القصر، وبحديث زياد بن الحرث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له: «إن الله لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» وأجاب الآخرون بأن ما في الآية من القصر إنما هو لبيان الصرف والمصرف، لا لوجوب استيعاب الأصناف، وبأن في إسناد الحديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف. ومما يؤيد ما ذهب إليه الآخرون قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 271] والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها في فقرائكم» وقد ادّعى مالك الإجماع على القبول الآخر. قال ابن عبد البرّ: يريد إجماع الصحابة، فإنه لا يعلم له مخالفاً منهم.
قوله: {لِلْفُقَرَاء} قدمهم، لأنهم أحوج من البقية على المشهور لشدّة فاقتهم وحاجتهم.
وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال: فقال يعقوب بن السكيت، والقتيبي، ويونس ابن حبيب: إن الفقير أحسن حالاً من المسكين، قالوا: لأن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه. والمسكين الذي لا شيء له، وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة.
وقال آخرون بالعكس، فجعلوا المسكين أحسن حالاً من الفقير، واحتجوا بقوله تعالى: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين} [الكهف: 79]. فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر. وربما ساوت جملة من المال، ويؤيده تعوّذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفقر مع قوله: «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً» وإلى هذا ذهب الأصمعي وغيره من أهل اللغة. وحكاه الطحاوي عن الكوفيين، وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه.
وقال قوم: إن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما وهو أحد قولي الشافعي، وإليه ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف.
وقال قوم: الفقير المحتاج المتعفف، والمسكين: السائل. قاله الأزهري، واختاره ابن شعبان، وهو مرويّ عن ابن عباس.
وقد قيل غير هذه الأقوال مما لا يأتي الاستكثار منه بفائدة يعتدّ بها. والأولى في بيان ماهية المسكين: ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البخاري ومسلم، وغيرهما، من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فتردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان»، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدّق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً» قوله: {والعاملين عَلَيْهَا} أي: السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة، فإنهم يستحقون منها قسطاً.
وقد اختلف في القدر الذي يأخذونه منها، فقيل: الثمن. روي ذلك عن مجاهد والشافعي. وقيل: على قدر أعمالهم من الأجرة، روي ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه. وقيل: يعطون من بيت المال قدر أجرتهم. روي ذلك عن مالك، ولا وجه لهذا، فإن الله قد أخبر بأن لهم نصيباً من الصدقة فكيف يمنعون منها ويعطون من غيرها؟ واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل هاشمياً أم لا؟ فمنعه قوم، وأجازه آخرون. قالوا: ويعطى من غير الصدقة.
قوله: {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} هم قوم كانوا في صدر الإسلام، فقيل: هم الكفار الذين كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتألفهم ليسلموا. وكانوا لا يدخلون في الإسلام بالقهر والسيف، بل بالعطاء. وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر ولم يحسن إسلامهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطاء؛ وقيل: هم من أسلم من اليهود والنصارى، وقيل: هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع، أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليتألفوا أتباعهم على الإسلام.
وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم جماعة ممن أسلم ظاهراً كأبي سفيان بن حرب، والحرث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل تألفهم بذلك، وأعطى آخرين دونهم.
وقد اختلف العلماء هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور الإسلام أم لا؟ فقال عمر، والحسن، والشعبي: قد انقطع هذا الصنف بعزّة الإسلام وظهوره، وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي: وقد ادّعى بعض الحنفية أن الصحابة أجمعت على ذلك.
وقال جماعة من العلماء: سهمهم باق لأن الإمام ربما احتاج أن يتألف على الإسلام. وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين. قال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخ ذلك، وعلى القول الأول يرجع سهمهم لسائر الأصناف.
قوله: {وَفِي الرقاب} أي في فك الرقاب بأن يشتري رقاباً ثم يعتقها. روي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وبه قال مالك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق وأبو عبيد.
وقال الحسن البصري، ومقاتل ابن حيان، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، والنخعي، والزهري، وابن زيد: إنهم المكاتبون يعانون من الصدقة على مال الكتابة، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي، ورواية عن مالك، والأولى حمل ما في الآية على القولين جميعاً لصدق الرقاب على شراء العبد وإعتاقه، وعلى إعانة المكاتب على مال الكتابة. قوله: {والغارمين} هم: الذين ركبتهم الديون ولا وفاء عندهم بها، ولا خلاف في ذلك إلا من لزمه دين في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب.
وقد أعان النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصدقة من تحمل حمالة وأرشد إلى إعانته منها. قوله: {وَفِى سَبِيلِ الله} هم الغزاة والمرابطون، يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء، وهذا قول أكثر العلماء.
وقال ابن عمر: هم الحجاج والعمار، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيراً منقطعاً به.
قوله: {وابن السبيل} هو: المسافر، والسبيل الطريق، ونسب إليها المسافر لملازمته إياها، والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقرّه، فإنه يعطى منها وإن كان غنياً في بلده، وإن وجد من يسلفه.
وقال مالك: إذا وجد من يسلفه فلا يعطى. قوله: {فَرِيضَةً مّنَ الله} مصدر مؤكد؛ لأن قوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء} معناه: فرض الله الصدقات لهم. والمعنى: أن كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف هو حكم لازم فرضه الله على عباده ونهاهم عن مجاوزته {والله عَلِيمٌ} بأحوال عباده {حَكِيمٌ} في أفعاله؛ وقيل: إن {فريضة} منتصبة بفعل مقدّر، أي فرض الله ذلك فريضة. قال في الكشاف: فإن قلت: لم عدل عن اللام إلى {في} في الأربعة الآخرة؟ قلت: للإيذان بأنها أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره؛ وقيل: النكتة في العدول أن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى ينصرفوا به كما شاءوا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم، بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة، كذا قيل.
وقد أخرج البخاري، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التيمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: «ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟» فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» الحديث حتى قال: وفيهم نزلت: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات}.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ} قال: يرزؤك ويسألك.
وأخرج ابن المنذر، عن قتادة قال: يطعن عليك.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود قال: لما قسم النبيّ صلى الله عليه وسلم غنائم حنين، سمعت رجلاً يقول: إن هذه لقسمة ما أريد بها الله، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكرت ذلك له، فقال: «رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر»، ونزل: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات}.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، قال: نسخت هذه الآية كل صدقة في القرآن {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء} الآية.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن حذيفة، في قوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء} الآية قال: إن شئت جعلتها في صنف واحد من الأصناف الثمانية التي سمى الله أو صنفين أو ثلاثة.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن أبي العالية، والحسن، وعطاء، وإبراهيم، وسعيد بن جبير، نحوه.
وأخرج ابن المنذر، والنحاس، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال: الفقير الذي به زمانة، والمسكين: المحتاج الذي ليس به زمانة.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن عمر، في قوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء} قال: هم زمني أهل الكتاب.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {والعاملين عَلَيْهَا} قال: السعاة أصحاب الصدقة.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} قال: هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا، وكان يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها خيراً قالوا: هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه.
وأخرج البخاري، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن أبي سعيد، قال: بعث عليّ بن أبي طالب من اليمن إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بذهيبة فيها تربتها، فقسمها بين أربعة من المؤلفة: الأقرع بن حابس الحنظلي وعلقمة بن علاثة العامري، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الخيل الطائي؛ فقالت قريش والأنصار: يقسم بين صناديد أهل نجد ويدعنا؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنما أتألفهم.».
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الزهري أنه سئل عن المؤلفة قلوبهم قال: من أسلم من يهودي أو نصرانيّ، قلت: وإن كان موسراً؟ قال: وإن كان موسراً.
وأخرج هؤلاء عن أبي جعفر قال: ليس اليوم مؤلفة قلوبهم.
وأخرج هؤلاء أيضاً عن الشعبي مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل، في قوله: {وَفِي الرقاب} قال: هم المكاتبون.
وأخرج ابن المنذر، عن النخعي، نحوه.
وأخرج أيضاً عن عمر بن عبد الله قال: سهم الرقاب نصفان: نصف لكل مكاتب ممن يدّعي الإسلام، والنصف الآخر يشتري به رقاب ممن صلى وصام، وقدم إسلامه من ذكر وأنثى، يعتقون لله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو عبيد، وابن المنذر، عن ابن عباس، أنه كان لا يرى بأساً أن يعطى الرجل من زكاته في الحج، وأن يعتق منها رقبة.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن الزهري، أنه سئل عن الغارمين قال: أصحاب الدين.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي جعفر، في قوله: {والغارمين} قال: هو الذي يسأل في دم أو جائحه تصيبه {وَفِى سَبِيلِ الله} قال: هم المجاهدون {وابن السبيل} قال: المنقطع به يعطى قدر ما يبلغه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: ابن السبيل هو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلّ الصدقة لغنيّ إلا لخمسة: العامل عليها، أو الرجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدّق عليه فأهدى منها لغنيّ».
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود، والترمذي، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لذي مرة سوى».
وأخرج أحمد، عن رجل من بني هلال، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود، والنسائي عن عبد الله بن عدي بن الجيار، قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين، فقال: «إن شئتما أعطيتكما ولا حظّ فيها لغنيّ ولا لقويّ مكتسب».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8